مجلة الأسرة ، العدد ٦٩ ، ذو الحجة ١٤١٩هـ
قال محدثي و هو يقص تجاربه في الحج ، لقد جربت الحج الترفي لأكثر من خمس حجج، كنت فيها في أيام منى أحتل لوحدي غرفة تحتوي كل التسهيلات و الخدمات التي توجد عادة في فندق جيد، و في نهار عرفة كنت أحتل خيمة كبيرة تحيط مع زميلاتها بفناء واسع رحيب، و كنت أتنقل بين المشاعر مستخدماً سيارة خاصة فارهة، و لكني مع ذلك كنت أعاني التعب و الإرهاق في أداء المناسك كواجبات مفروضة شاقة و عزائي – من مشقة أدائها – ما أرجو من قبول و ثواب.
و اقترح عليّ صديق عزيز أن أجرب الحج اللاترفي، حج البسطاء من الناس – وهم نسبة كبيرة من الحجاج تقدرهم وزارة الحج بأكثر من الثلث – واعداً بأني سوف أمر بتجربة فريدة، و في سانحة من ميل النفس إلى المغامرة، و الملل من الروتين استجبت لاقتراح صديقي فاستغنيت عن مظاهر من التكلف كنت أراها مهمة للإعداد لممارسة أعمال الحج، و اكتفيت من السكن و الطعام بما يكتفي به عادةً البسطاء الذين تخلصوا من رق التكلف، و لم أستعمل في تنقلاتي بين المشاعر غير وسيلة نقل واحدة قدمي اللتين كانت إحداهما – بالصدفة – تعاني من جرح حديث العهد.
ودهشت للسهولة واليسر اللذين تمت بهما أعمال الحج و كانت أبعد مسافة بين المشاعر المسافة بين حدود عرفة و حدود مزدلفة، و قد قطعتها بدون كلفة في ساعة و عشر دقائق، و بالرغم من أني أخطو نحو السبعين من سني العمر فلم يخطر ببالي أن أشكو من تعب المشي، إذ كنت و أنا أقطع تلك المسافة أرى عن يميني معوقاً يدفع عربته – عربة المعوقين – بساعديه، و عن يساري عاجزين على كرسي ذي عجلات يدفعهما قريبان أو صديقان لهما، و كانت أمامي سيدة باكستانية تحمل طفلها الرضيع على كتفها و تجر وراءها طفلين أكبرهما في الرابعة من العمر، و لا أظن أن هؤلاء هم كل العجزة بين المشاة اجتمعوا بالصدفة حولي، بل كنت على يقين أن أمثالهم كثيرون بين طوفان البشر المشاة المتخففين من أحمالهم، أو الحاملين مثلي حقائب الظهر أو الفرش أو خيمة صغيرة كما يفعل حاج يماني طاعن في السن.
كان أمراً مدهشاً أن أحس لأول مرة أن أداء الحج يمكن أن يكون سهلاً ميسراً لا عنت فيه و لا تعقيد، ولكن أكثر من ذلك أن أجرب أحاسيس و مشاعر جديدة، فقد جربت أن أستمتع حقاً بأداء العبادة، لا لأن العبادة تعطيني فقط الأمل في الثواب، بل لأنها بالإضافة إلى ذلك كانت نفسها مصدر متعة، كنت أشعر بالقرب من أخي الإنسان و التعاطف معه و أتمثل عملياً معنى “ إنما المؤمنون إخوة “، و أدركت مقاصد للحج من الغريب أني لم أدركها من قبل، و من هذه المقاصد.
١- رياضة النفس على الصبر و التحرر من عادات الترف و التكلف، و هذا واضح من أن الحج لما فرض – في الإسلام – كان يوجب على الرجل الامتناع عن الطيب و بعض مظاهر الزينة، مكتفياً بالبسيط من اللباس، ضاحياً للشمس مدة السفر من ذي الحليفة – ميقات المدينة – إلى مكة المكرمة، وهي عادة عشرة أيام ، ويفرض على المرأة التي كان النقاب والقفاز يحميان نضارة ونعومة يدها أن تخلعهما وأن تضحي للشمس كل هذه المسافة سافرة الوجه بارزة للشمس و الكلف و الغبرة، ممتنعة عن الطيب ومظاهر أخرى للزينة.
وقد وصف الحج بأنه (جهاد) لا قتال فيه و وصف الحجاج بإنهم يأتون ((رجالاً و على كل ضامر )) و إذا كانت الراحلة ضمرت من مشقة السفر ووعثائه فكذلك راكبها.
٢- اجتياز دورة تدريبية في التواضع، فقد حج – أسوتنا – صلى الله عليه و سلم – على رحل رث و قطيفة تساوي أربعة دراهم و قال :” اللهم حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة “ . والتواضع ليس فقط قيمة أساسية من قيم الإسلام، بل هو مصدر لتوليد و تطوير وتنمية عدد من القيم الإسلامية الأخرى، و نقيض التواضع الكبر. و الآيات القرآنية التي وردت فيها مادة ( كبر) وما اشتق منها تبلغ اثنتين و أربعين آية وكلها تبين أن الكبر سبب الضلال أو نتيجته أو سمة الضالين أو وصفاً سببياً لاستحقاق العقاب الدنيوي والأخروي، والمتواضع قادر على تحقيق الوسطية ( سمة الإسلام ) و بالعكس فلا ترى غالياً أو متطرفاً في أحد الجانبين إلا و في صدره كبر ما هو ببالغه.
٣- وجود فرصة للمسلم لكي يرى الحياة على حقيقتها، فتنكشف له حقائق الحياة كما سوف تتكشف له عند الموت، فيعلم أن كثيراً من الأمور التي اعتاد أن يراها مهمة، أو ثمينة، و لا يمكن الاستغناء عنها غير مهمة ولا قيمة لها، و يمكن الاستغناء عنها، و يرى الفروق التي أوجدها الناس بين الناس فروق اصطناعية و زائفة. و لا وزن لها في ميزان الله، فإذا أجبرته ظروف الحياة على مراعاة هذه الفروق وانعكست على جوارحه الظاهرة و لم يتأثر بها قلبه الذي يبقى شاهداً على الوحدانية، موقناً بأن الحياة الدنيا متاع الغرور.
قال صاحبي بأن كل ما أتمناه أن يهتم وعاظنا بتوعية الناس بهذه المقاصد، و أن يأخذ المسؤولون في وزارة الحج في الاعتبار عند تخطيطهم للحج و تنظيمه و رسم إجراءاته تشجيع الحجاج على تحقيق تلك المقاصد، و من باب أولى أن يتفادوا أي تعويق لذلك.
حينما انتهى صاحبي من حديثه تذكرت أنه في أعقاب حج العام الماضي و في جو التأثر بكارثة الموت الجماعي على جسر الجمرات كتب أحد الصحافيين السعوديين الأفاضل مقالة في ثلاث حلقات ابتدأها بالإشادة و التنويه بإجراءات الرفاهية و الراحة التي وفرها منظم الحملة التي كان صحافينا من ضمن حجاجها، ثم خصص سائرها لاقتراح أن تضع الحكومة قيداً على حج من لا يتوفر فيه حد معين من اللياقة الصحية سواء بسبب المرض أو السن، مستنكراً أن يجئ أناس من شتى بقاع الدنيا لكي يموتوا في (بلادنا!!) ، وداعياً إلى إقناع الحكومات الإسلامية بقبول هذا القيد. و في متابعتي لقراءة الحلقات الثلاث كانت تلح على ذهني صورتان:
الأولى : صورة سيدة إفريقية مصابة بالسرطان في مرحلة متقدمة، و كانت تستعين على مقاومة الألم بحقن المورفين و حينما أبلغت المستشفى الذي يعالجها أنها تعتزم الحج و أن ذلك يقتضيها سفراً لمدة شهرين اهتم المستشفى بإعداد جرعات المورفين الكافية لهذه المدة، و طلب منها أن تراجع المستشفى لكي تتسلم شهادة بأن جرعات المورفين التي تحملها و تستعملها ضرورة دوائية، و في الموعد المحدد جاءت للمستشفى تعلن أنها لن تأخذ جرعات المورفين التي سوف تحملها و لا حاجة لها في الشهادة، مبررة ذلك بأنها سوف تسافر إلى بلد مقدس و لن تحتاج معه إلى دواء! و قدمت مع رفقتها فتميزت بأن روحها المعنوية أعلى من أي منهم، و كان ظاهراً أنها لا تحس بالمعاناة و لم تسمع منها حتى الشكوى التي تعود الحجاج عليها، و كان وجهها يطفح بالسرور و أتمت مناسك الحج كأي حاج عادي يتمتع بالصحة ولا يشكو من المرض، و عادت إلى بلادها لم ترزأنا بالموت و الدفن في ( بلادنا!!) ، هذه قصة واقعية كنت أنا فيها شاهد عيان.
الثانية : صورة تكرر دائماً، فلاح أندونيسي يبدأ في شبابه بجمع نفقة الحج ربية فوق ربية مصارعاً الفقر والحاجة، و كلما قرب أمله من التحقق أبعده – مسافات – غول التضخم، و حين بلغ الثمانين من العمر واستطاع أن يجمع نفقة الحج أربعة عشر ألف ريال جاء إلى بيت الله و قد تحقق كل أمله في الحياة، فملأت قلبه السعادة وغمره الفرح والسرور، و نال كل ما يطلبه من الدنيا.
و كلما ألحت على ذهني هاتان الصورتان ساءلت نفسي هل لدي من قوة الإيمان و صدق اليقين و الشوق إلى الكعبة المشرفة ما لدى تلك الحاجة الإفريقية أو ذاك الحاج الأندونيسي! و هل لي الحق دونهما في الوصول إلى بيت الله؟ و تساءلت أي درجة من الانسجام مع القيم الإنسانية و الشرعية يقع اقتراح حرمان مثل هذين الحاجين من الوصول إلى بيت الله بحجة إشفاقنا من أن يزاحم الأجانب المواطنين في مقابرهم، مع أن كل الموتى – مواطنين و أجانب – سوف يتحولون إلى تراب فتزيد بهم الأرض و لا تنقص.
أما عن الارتباط بين اللياقة الصحية و حوادث الموت في الحج فلا يوجد حسب علمي مؤشر إحصائي أو مقياس موضوعي يثبت أن عدم اللياقة الصحية كانت عاملاً أساسياً بل و لا عاملاً مساعداً في حدوث الموت في كارثة الجمرات أو الموت المعتاد بسبب الزحام، بل من له خبرة بالحج و سلوك الحجاج في أداء المناسك يدرك أن السبب يرجع دائماً إلى سلوك الإنسان.
وبعد هذا فإن رغبة المسلم من أقصى الشرق أو الغرب أن يموت في مكة أو المدينة هي نتيجة لعاطفة إيمانية لها شاهد مما ورد في الأحاديث من الوعد الجميل لمن مات في مكة أو المدينة، فهي عاطفة جديرة منا بالاحترام لا بالاستنكار.
وبعد هذا كله فإن علاقة المواطن السعودي بالرياض أو بأبها أو ينبع أو الدمام مثل علاقة المواطن المصري بالقاهرة أو الإسكندرية أو أسيوط أو طنطا قد يكون من الطبيعي أو من المحتمل أن تتأثر بالأنانية القومية أو الشح الذي أُحضرته الأنفس. أما علاقة المواطن السعودي بمكة حيث بيت الله الحرام فيجب أن تتشكل بمراعاة إعلان القرآن:((المسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه و الباد)) والنص صريح في أن سعودياً صالحاً عابداً لله في المسجد الحرام يعد من جدوده أجيالاً تمتد إقامتهم في مكة ألفي سنة هذا السعودي حقه في الوصول إلى البيت المعظم و العبادة فيه يتساوى تماماً مع حق فلاح أندونيسي من أيريان الغربية في الشرق أو راع أفريقي من غينيا بيساو في الغرب.
أما الأمر الآخر الذي حمل همه الكاتب الفاضل و هو إقناع الحكومات الإسلامية بقبول القيد المقترح فخطره يسير. إذ المشاهد أن بعض الحكومات تضع من القيود و الأعباء على سفر مواطنيها للمملكة للحج و العمرة ما لا تضع مثله على سفر مواطنيها إلى بلد آخر. و هي دائماً قادره على تبرير قيودها بالاعتبارات الإنسانية و المصلحة العامة و سياسة الاقتصاد الوطني، فمثل القيد المقترح سيلقى من مثل هذه الحكومات الترحيب دون حاجة إلى بذل أي جهد للإقناع.