اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﻌﺎم ﻟﺸﺆون اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺤﺮام واﻟﻤﺴﺠﺪ النبوي، ﻋﻀﻮ ﻫﻴﺌﺔ ﻛﺒﺎر اﻟﻌﻠﻤﺎء ، وﻋﻀﻮ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺮﺋﺎﺳﻲ ﻟﻤﺮﻛﺰ اﻟﻤﻠﻚ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻟﻠﺤﻮار اﻟﻮﻃﻨﻲ ﺑﺎﻟﻤﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدية.

الوضع الليلي الوضع المضيء
كامل الشاشة شاشة مقسمة

لماذا اعتنق محمد أسد الإسلام

الأخوة والأخوات الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسرنا أن نبدأ في نشر التفريغ النصي لمحاضرات الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصيّن. والذي نأمل أن يسهل الوصول لها والاستفادة من محتوياتها. مع ملاحظة وجود بعض العبارات التي لم تتضح من النطق ووضعنا مكانها نقطا للتعبير عنها.

إدارة الموقع

الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك وخليلك سيدنا ونبينا محمد.

لماذا اعتنق محمد أسد الإسلام؟

هذا السؤال يثير عندي سؤالين، أحدهما يتصل بعالم الافتراض، والآخر بعالم الواقع.

الصورة الذهنية لدي عن المثقف الأوروبي – وأعترف أن مصدرها الانطباع وليس مصدرها المعرفة والاطلاع والخبرة الشخصية – أن المثقف الأوروبي من عهد التنوير تعود المحاكمة المنطقية للأمور والتحيز للسببية العقلية، ومن عهد ديكارت تعود جرأة التشكيك في المسلمات في بيئته الثقافية، وكان يصر دائمًا على طلب الدليل المنطقي على هذه المسلمات، بناء على هذه الصورة -إذا افترضنا أنها واقعية- فإن السؤال يتضمن أن إسلام مثقف أوروبي يعتبر حدث غير عادي، فأليس من المفترض إذا كانت الصورة التي في ذهني عن المثقف الأوروبي صورة واقعية أن لا يكون الأمر كذلك؟

مبرر هذا الافتراض أن التحديات التي تواجه تفكير المثقف الأوروبي المهتم بالإيمان بالنسبة للأديان الأخرى غير الإسلام بما فيها المسيحية واليهودية هي تحديات صعبة قد تكون في الإسلام أو قد تختفي في حالة الإسلام.

أولا: بالنسبة للأديان كلها تقريبًا، وحتى الأديان الجديدة، فإن متبعي هذه الديانات ليس لديهم الاقتناع الذي يعتمد على أدلة تعود الناس أن يعتمدوها في الحكم على الأشياء؛ بأن مؤسس الدين شخصية تاريخية. أتذكر مرة في مقال على ناشيونال جيوغرافيك عن إبراهيم الخليل، فكان محرر المقال يسأل حاخام حاييم فرومان، كان يسكن في المغتصبة التي يسمونها المستوطنة قرب قبر الخليل، فيقول: “هل تعتقد أن إبراهيم شخصية تاريخية، وليس شخصية أسطورية؟” قال: “الأمر يحتمل الصواب أو لخطأ، أنا لا يهمني هذا؛ لأن إبراهيم بالنسبة لي ليس دم وجسد، وإنما هو ثقافة وفلسفة.”، فحتى الحاخام اليهودي ليس لديه أدلة من جنس الأدلة التي يُعتمد عليها عادة في الحكم على الأشياء، ولا وثائق معتمدة غير العهد القديم، والواقع أن شخصيات العهد القديم هي شخصيات إيمان، وليست شخصيات تاريخية، سواء إبراهيم أو اسحق أو يعقوب أو هارون أو موسى.

وقبل ثلاثين عامًا كتب المؤلف الإنجليزي يدعى (ويلز) كتابًا بعنوان (Did Jesus Exist)، وتضمن هذا الكتاب أنه في النصف الأول من القرن الماضي كان عدد رجال الدين الذين يعترفون أنه لا يمكن كتابة ترجمة للسيد المسيح -عليه السلام-؛ لأن الوثيقة الوحيدة التي تدل على أن السيد المسيح عليه السلام وجد على حياة العهد القديم، والسيد المسيح عليه السلام في العهد الجديد شخصية إيمان وليس شخصية تاريخ، فمتبعي الديانات عندهم اليقين إيمانيًا أن مؤسس الدين شخصية تاريخية، ولكن ليس لديهم اليقين المعتمد على وثائق مكتوبة.

أما بالنسبة للإسلام فالأمر يختلف، فليس لدى الناس شك بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان شخصية تاريخية، بل إن تفاصيل حياته نقلت لنا، حياته العامة، فأصبح الواحد منا يعرفه أكثر مما يعرف جاره، وحياته الخاصة نقلت، فصار المسلم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف عن أبيه وأمه، هناك أربعة آلاف شخص بين رجل وامرأة، نقلوا حياة النبي صلى الله عليه وسلم لنا بتفاصيلها من رضاه وغضبه، وبكاؤه وضحكه وطريقة مشيه، كل التفاصيل الدقيقة في حياته وأقواله وأفعاله. وأظهر التاريخ حكمة من أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك تسع زوجات وحُرِّم عليهن الزواج؛ فلو كانت واحدة فاتها كثير من تفاصيل حياته ربما تكون نسيتها أو ربما لا ترى أنها مهمة، لكن لم يكن عندنا زوجتين اثنتين فقط، بل عندنا تسع زوجات، وبالتالي عندنا فرصة أكبر في تكوين تفاصيل حياته بشكل أدق، فنعرف عنه –صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يعرف المرء عن أبيه وأمه.
بموجب هذه المعرفة يستطيع الإنسان أن يحكم بمدى صدقه وأمانته، وهل هو سوي من الناحية النفسية أو غير سوي، فهذا الفارق فارق مهم ومطلوب.

وكنت أفترض ان التحدي الذي يواجه فكر المثقف الأوروبي بالنسبة للأديان يختفي في الإسلام في هذا المجال. مجال آخر الكتاب المقدس وليس هناك إثبات بالسند عن صدور الكتاب المقدس عن مؤسس الدين، والكتاب المقدس يتضمن المعالم الكبرى للدين والتعليمات الرئيسية للدين؛ لأننا نعرف أن العهد القديم والعهد الجديد تغير مع الزمن.

أما بالنسبة للإسلام فإن المصحف الموجود الآن في المغرب وفي الصين لا يختلف عن المصحف الذي كُتب في عهد عثمان بعد ستة عشر سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكُتب اعتمادًا على الوثائق المكتوبة التي كُتبت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروجع على المجموعة التي جُمعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فورًا.

كما يقول بروفيسور (….) في مقدمة ترجمته للقرآن: “فيما عدا تغييرات الشكل التي وُضعت لتسهيل القراءة، فإن القرآن المطبوع في القرن العشرين بقي كما وُجد في عهد عثمان قبل 1300 سنة.”. أيضًا هذا فارق بين الإسلام وبين غيره من الأديان يًضعف التحدي الذي يواجه المثقف المهتم بالإيمان.

الأمر الثالث: كما نعرف في العهد القديم والعهد الجديد تضمن معلومات كانت شائعة في الماضي، ولكن ظهر فيما بعد أنها ليست صحيحة، جيمي كارتر في واحد من آخر كتبه، عنوانه: (Our Endangered Values) قال: ” أنا لا يقلقني أن أرى في الكتاب المقدس أن الأرض مربعة أو أن النجوم ممكن أن تهبط على الأرض مثل التين من الشجر، أو أن السماوات خلقت في ستة أيام من أيام توقيتنا (calendar) الموجود لدينا الآن؛ لأن الذين كتبوا هذا الكتاب المقدس لم يكن لديهم الوسائل المعرفية الموجودة لدينا، فليس عندهم التلسكوبات، فأنا لا اقلق من وجود هذا.”

بالنسبة للقرآن فإن الأمر مختلف، فطوال هذه القرون لم يوجد فيه ما يناقض العقل أو ما يناقض الواقع أو يخالف مكتشفات العصر الحديث، بل إن القرآن تعرض لتفاصيل كثيرة في الكون والحياة، بالرغم من هذا فإنه لم يكتشف شيئًا يخالف الواقع والحقائق العلمية والتفاصيل التي تعرض لها العهد القديم والعهد الجديد، فدائمًا ما يتفادى القرآن الأجزاء التي كانت موضع النقد، بل إن النصوص القرآنية التي كانت في الزمن الماضي تخالف في ظاهرها المعلومات السائدة في ذلك الوقت، واضطر المفسرون لتفسيرها تفسيرًا مجازيًا جاء العلم الحديث فأثبت أن ظاهر النصوص يتفق مع الحقائق العلمية التي اكتشفت أخيرًا، فهذا أيضًا تحدٍ موجود في الأديان الأخرى وليس موجودًا في الإسلام.

وهذا يعني : كان المفترض بالنسبة لتفكير المثقف الأوروبي ألا يواجه هذه التحديات التي يواجهها، ويكون من السهل عليه أن يعتنق الإسلام، ولا يكون اعتنقاه للإسلام حدثًا غير عادي.

نأتي للسؤال التالي: لماذا الواقع يخالف هذا الافتراض، ونرى أن اعتناق المثقف الأوروبي للإسلام يعتبر حدثًا غير عادي؟

لهذه الأسباب:
السبب الأول: تشوه صورة الإسلام في الثقافة الأوروبية:

والتشوه الناشئ عن المعلومات الزائفة التي نقلها عن قصد وعن غير قصد الأشخاص الذين عنوا بدراسة أحوال المسلمين وتراثهم.
وفي كلمة لمحمد أسد في الراديو السويسري عام 1959، ورد في هذه الكلمة: “لا يمكن إخفاء حقيقة أن لكثير من الغربيين نوعًا من التفكير الخرافي، فارغًا من كل القيم الأخلاقية، وما هو إلا عقبة كأدى في طريق التقدم أمام المسلمين”. وبعبارة أخرى له قد نعتبر فيها شيئًا من المبالغة: “أن التحقير المتكرر بدون حذف وبدون نهاية للنبي محمد نواجهه في كل الأدبيات الغربية”.

بل إن محمد أسد وهو يذكر فكرته عن الإسلام قبل تعرفه عليه كان يقول” كنت شابًا أوروبيًا نشأ على الاعتقاد بأن الإسلام وكل رموزه ليس إلا محاولة التفافية حول التاريخ الإنساني، محاولة لا تحظى حتى بالاحترام من الناحية الروحية والأخلاقية، ومن ثم لا يستحق الذكر، فضلًا عن أنه أقل من أن يوازن العقيدتين الوحيدتين اللتين يرى الغرب أنهما تستحقان الاهتمام والبحث، وهما: المسيحية واليهودية”. كما ذكر محمد أسد في نفس الكلمة التي أشرت إليها، كان السبب في هذا أن الأرابيستس الذين قدموا الإسلام لأوروبا كانوا في الأول قبل القرن التاسع عشر من المنصرين الذين يرون أن واجبهم هوالرد على هرطقات الإسلام وكفرياته الشنيعة، لكن لما أتى المستشرقون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، الواقع أن نقل الصورة مع الأسف لم يتعدل كثيرًا، كما يصف محمد أسد في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق)، الذي كتبه عام 1934م: “باستثناءات قليلة جدًا، فإن أكثر المستشرقين الأوروبيين فضلًا عن أدناهم كانوا يقترفون اثم التحيز غير العلمي لكتاباتهم عن الإسلام، ففي تحقيقاتهم يظهر غالبًا أن الإسلام لا يمكن أن يعامل بوصفه مجرد موضوع للبحث العلمي، بل بوصفه متهمًا ماثلًا أمام قضاة لمحاكمته. بعض هؤلاء المستشرقين يأخذ موقف المدعي العام الحريص على ثبوت الإدانة، وبعضهم يأخذ موقف المحامي المقتنع شخصيًا؛ لأن موكله مذنب، ولذلك فهو يلتمس له ببرود ظروفًا مخففة، وعلى العموم فأسلوب الاستدلالات والاستنتاجات المفضل لمعظم المستشرقين يذكرنا بإجراءات محاكم التفتيش، أي إنها نادرًا ما تبحث في الوقائع التاريخية بعقل متفتح، بل تبدأ في أغلب الأحوال من استنتاج سابق أملاه التحيز ويختارون الدليل وفقًا للنتيجة التي أزمعوا الوصول إليها، وحين يستحيل توفير اختيار محايد للشهود فإنهم يقتطفون أجزاء من أقوال شهودهم خارج السياق العام أو يفسرون شهادتهم بروحلضغينة بعيدًا عن الطريقة العلمية ودون إقامة وزن لوجهة النظر الأخرى فالقضية المسلمين أنفسهم، ونتيجة هذا الإجراء الظالم صورة مشوهة غريبة عن الإسلام ومعتقداته.”

السبب الثاني: واقع العالم الإسلامي:
يصفه محمد أسد في كلمات مختصرة في أنه “ضياع مأساوي غالب على العالم الإسلامي”، ويقول عنه في وصفه للعالم الإسلامي في ذلك الوقت:
“الحقيقة أن حياة المسلم بعيدة جدًا من الإمكانيات المثالية المتاحة في تعاليم الإسلام، وكلما كان في الإسلام تطورًا وحركة تحول لدى المسلمين إلى توان وجمود، وكلما كان فيه من كرم واستعداد للتضحية بالنفس تحول عند مسلمي هذا العصر إلى ضيق الأفق وعشق الترف والحياة السهلة” [الإسلام على مفترق الطرق].

“في هذا الوقت هجر العالم الإسلامي تقاليده الخاصة وارتد إلى العمى الروحي والفقر العقلي، العالم المسلم لم يبق له من القوة ما يجعله قادرًا على المقاومة، وبقايا وجوده الثقافية تسوى بها الأرض اليوم تحت ضغط الأفكار والعادات الغربية، هنا إشارة محسوسة إلى الخضوع، والخضوع في حياة الأمم معناه الموت تقريبًا حقيقته بوصفه عاملًا ثقافيًا مستقلًا، وأنا لا أتكلم عن الجانب السياسي من انحطاط المسلمين، فإن أهم مظهر لحياتهم الحاضرة في المجالات الفكرية والاجتماعية إلى حد بعيد: اضطراب الإيمان ونقص الإبداع وانحلال الكيان الاجتماعي. إن حالة الفوضى الثقافية والاجتماعية التي يمر بها عالم المسلمين اليوم تُظهر بوضوح أن القوى المتوازنة التي كانت مرة سببًا في عظمة الإسلام قد استُهلكت اليوم تقريبًا، ونحن المسلمين اليوم (يعني قبل العشرينيات من القرن الماضي) منجرفون مع التيار، ولا أحد يدري إلى أي غاية ثقافية، لم يبق لنا أية شجاعة فكرية، ولا رغبة في مقاومة السيل الجارف من التأثيرات الأجنبية المدمرة لديننا ومجتمعنا، لقد القينا جانبًا خير تعاليم ثقافية عرفها العالم، نحن نناقض معتقدنا على حين كان هذا المعتقد لدى أجدادنا دافعًا قويًا، نحن اليوم نخجل منه على حين كانوا هم فخورين به، ونحن بخلاء وأنانيون على حين كانوا يفتحون أنفسهم للعالمين، ونحن فارغون على حين كانوا مفعمين. هذا اللوم والأسى معروف جدًا لكل مفكر مسلم؛ لا فائدة من التظاهر واستعمال حجج جدلية لكي نقنع أنفسنا بأن خزينا لم يبلغ النهاية؛ فإنه قد بلغها بالفعل.”.

السبب الثالث كما يذكر محمد أسد: (الكراهية للإسلام المتوارثة في الثقافة الأوروبية):

في الكلمة التي أشرت إليها من قبل، كتب محمد أسد: “اتجاه التفكير لدى معظم الغربيين مغلف بالبغضاء والعداوة للإسلام كدين، هذه البغضاء متجذرة بعمق إلى درجة أن الغربيين أنفسهم ليسوا واعين بها”.
قبل ذلك كتب: “بعد قرون من البغضاء وترسخ الصور الزائفة عن الإسلام ليس غريبًا أن يجد معظم الغربيين صعوبة بالغة في تحرير أنفسهم مما نشأوا عليه من تصورات زائفة، وأن ينظروا إلى الإسلام بجدية عقلانية يستحقها كدين.”.
وكتب من قبل في [الإسلام على مفترق الطرق]: “إن كثيرًا من خبرات الحضارة الغربية التاريخية موسوم بعداء عميق للإسلام وإلى حد ما فإن ذلك موروث من التراث الأوروبي. الغربيون يعتقدون أن تفوقهم العرقي حقيقة واقعة، وكان احتقارهم لغير الأوروبيين أحد المظاهر البارزة للحضارة الغربية، وهذا وحده على كل حال ليس كافيًا لبيان شعورهم تجاه الإسلام، فهنا وهنا فقط يظهر أن الموقف الغربي تجاه الإسلام ليس مجرد الكره أو عدم الاهتمام كما هو الحال بالنسبة إلى الأديان والثقافات الأخرى، بل هو في الغالب كره عميق الجذور يصدر عن تعصب شديد، وهو ليس فكريًا فحسب، بل هو يحمل صبغة عاطفية حادة، قد لا يقبل الغرب تعاليم بوذا أو الفلسفة الهندوسية، لكنه يحافظ دائمًا على موقف عقلي متزن تجاه هذين النظامين، ولكن حال ما يلتفت إلى الإسلام فإن التوازن يضطرب ويتسلل محله التحيز العاطفي. كانت الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي أنتجت أعمق وأدوم الانطباعات على النفس العامة الأوروبية، الشر الذي أحدثته الحملات الصليبية كانت أولا وقبل كل شيء شرًا ثقافيًا وقد نشأ تسمم العقل الأوروبي ضد العالم الإسلامي عامة من خلال تضليل متعمد مدعوم من الكنيسة ضد تعاليم الإسلام، مع أن الشعور الديني الذي كان من جذور العداء الأوروبي للإسلام قد ترك مكانه في وجهة نظر أكثر مادية للحياة، فإن هذا العداء القديم لا يزال باقيًا في صفته عاملًا لا شعوريًا في عقل الرجل الغربي، وبالطبع فإن درجة هذا العداء تختلف من فرد إلى فرد، ولكن وجوده لا يمكن إنكاره، روح الحملات الصليبية بشكل مصغر على كل حال لا تزال تتسكع فوق الغرب وتؤثر في نظرته إلى العالم المسلم وكل ما يتعلق بالإسلام.”

هذا التفسير لمحمد أسد لبقاء هذا الشعور حتى الآن وفي وقت صار فيه التعارف بين الشعوب أكثر، كان سبق إليه غوستاف لوبون في كتابه حضارة الغرب عندما كان يناقش تأثير الحضارة الإسلامية على الحضارة الأوروبية، فقال: “وقد يسأل القارئ: لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يقيمون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني؟

لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل أنا نفسي به أيضًا، وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر الحقيقة، وأننا لسنا أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد، فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد، وكانت خلاصة ماض طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها فقط هي التي تتكلم عند أكثر الناس، وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراؤهم، فيلوح ما تمليه عليهم من الآراء حرًا في الظاهر فيحترم، تراكمت كثير من آرائنا المبتسرة الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءًا من مزاجنا وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانًا والعميق دائمًا.”

الواقع فعلًا تلفت النظر مثلًا في السويد تعتبر تتمتع بأفضل نظام اجتماعي موجود في الدنيا، وسجلها في حقوق الإنسان أنصع من أي سجل آخر، تحيزها للتعددية أفضل من أي بلد آخر، ومع ذلك فعندما نشرت صحيفة الوول ستريت الأوروبية في عام 2004م الاستبيان الذي أعدته لها إحدى المؤسسات ظهر أن السويديين بأن 75% منهم قالوا إنهم لا يحبون أن يروا الإسلام في أوروبا. أحيانًا يقال أن هذا كان تأثرًا بتجاربهم مع المسلمين الموجودة عندهم؛ لأنهم من المسلمين المهاجرين جاءوا من بيئات جاهلة ومتخلفة، وسلوكهم في كثير من الأحيان سلوك سيء، ويسيئون استعمال الحريات والحقوق التي تتاح لهم في هذا البلد، وهذا قد يكون صحيح فعلًا، لكن العامل الرئيسي ليس هذا، وما يدل عليه أن البوسنيين لا يختلفون عن أوروبيين بيض أريين، لا يختلفون عن غيرهم لا يختلفون عن الكروات أو عن الصرب، ومع ذلك نتذكر في 25 أغسطس 1991م عندما كان الصرب يقصفون مكتبة سراييفو ويدمرون مليون كتاب من بينها مائة ألف مخطوط، وقبل ثلاثة أشهر كانوا يقصفون المعهد القومي، ودمروا خمسة آلاف مخطوط من أنفس المخطوطات الإسلامية واليهودية. يمكن نقارن رد الفعل لدى الغرب تجاه هذا ورد فعلهم عندما الأفغان فجروا الجبل.

الإشكال في مثل هذا أنه حتى العلم والمعرفة والاطلاع لا يؤثر كثيرًا على هذا الأمر، معي مستلة من كتاب (Outline of History) للروائي المؤرخ المشهور الإنجليزي هربارت جورج ويلز، يقول فيه:

“Islam prevailed because it was the best social and political order the times could offer. It was the broadest, freshest, and cleanest political idea that had yet come into actual activities in the world, and it offer better terms than any other to the mass of mankind.”


هذا الذي يكتب هذا الرأي عن الإسلام، والذي أعتقد أن كثيرًا من غير المسلمين يرون فيه كثير من المبالغة وجَّه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم إساءات بذيئة وظالمة، فكان المفروض أن رجل لديه مثل هذه الفكرة عن الإسلام أن يكون حكمه عن الشخص الذي جاء بالإسلام أكثر توازنًا، ولكن هذا مثل وشاهد عليه.

القصد، أن كل هذه الأمور كانت عوائق جدية، فهي تفسر كيف أن اعتناق الإسلام حدث غير عادي مع أن تغيير العقيدة في أوروبا لا يعتبر حدث غير عادي، حتى بالنسبة للمشاهير الذي يتتبع الإعلام توافه حياتهم، لا يعتبر تغير ميسز دونالدسون لما غيرت اللوثرية أو مستربلير لما غير إلى الكاثوليكية، يمر في الأخبار كحدث عادي، فهذا يدلنا على أهمية اعتناق محمد أسد الإسلام، وكيف اقتحم هذه العقبات، وكونه اخترق ردم ذي القرنين لكي يعتنق الإسلام في ومواجهة كل هذه الأمور.

في الواقع أن الوقت قد طال ولا أعتقد أن لي الحق أن أطيل عليكم أكثر.

لما نبحث عن أسباب إسلام محمد أسد نجد أنها كانت لثلاثة دوافع رئيسية:


 دافع وجداني يتعلق بالعاطفة والشعور.
 دافع عقلاني يتعلق بالمعرفة والاطلاع.
 دافع من تكوين شخصية محمد أسد نفسه

قراءة تاريخ محمد أسد تدل على أنه فعلا كان لديه منذ الصغر الإحساس وإن كان غامضًا بالحاجة إلى الشعور بالسلام مع نفسه ومع البيئة الخارجية، ويعطيه تفسير معقول للحياة، فالواقع مع الأسف أنا كنت أعديت نصوصًا من محمد أسد تبين كيف تطور هذا الإحساس في حياته حتى انتهى بتجربته وهو يعدو بجواده على الثلج في أرض إيرانية.

بالنسبة للعامل الثاني، لا شك أن محمد أسد أُتيح له الاطلاع على التراث الإسلامي بعد معرفته بالعربية والفارسية أكثر مما أتيح للكثيرين، واجتمع والتقى بالشعوب وبالزعماء وبقادة الفكر، واطلع على مختلف التيارات والاتجاهات، فلا شك أنه عرف الإسلام معرفة حقيقية.

العامل الثالث شخصي، فكان محمد أسد لا تنقصه الشجاعة والجرأة واستقلال الفكر، فكل هذه الأمور كان الإنسان في حاجة إليها لكي يقتحم كل هذه الصعوبات.

أشكركم على حسن الإستماع

2016

صالح بن عبدالرحمن الحصين

شارك المقال