الحضارة المعاصرة مع الأسف الشديد بهذه الخيرات والنعم والمنجزات التي أعطتها للإنسان في هذا العصر، سواء الثروة المعرفية أو التكنولوجيا في التنظيم و تكنولوجيا إنتاج النضج الفكري، بل أيضًا حتى في المجال الخلقي، مثل ما نسمع الآن عن حقوق الإنسان وعن القيم الكونية من العدل والحرية والمساواة أمام القانون، فكل هذه أشياء أهدتها الحضارة الغربية للعالم المعاصر، وهي لا شك أنها هدايا قيمة، والمفروض أن نحاول أن نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، لكنها مع الأسف من جانب آخر أوجدت لدى العالم ثلاث أزمات لا تزال تتعقد ولا تُحل، فطوال هذه القرون صارت هذه الأزمات تتراكم، ثلاث أزمات هي سر شقاء الإنسان الآن، وسر العَنَت الذي يعانيه، وسر الحياة الضنك التي يعانيها بالرغم من كل وسائل السعادة.
1- الأزمة الروحية
أول هذه الأزمات، الأزمة الروحية: وهي فقد الإيمان المؤسس على السببية العقلية، إما أن يكون إيمانًا مبنيًا على خرافة، والمفروض أن هذا العصر ضد الخرافة، أو لا إيمان، ينتج عن الإيمان المبني على غير السببية العقلية أنه عرضة لأن يتزلزل وأن يزول، أما عدم الإيمان، فالحقيقة أنه يفقد الحياة، فيفقد الإنسان معنى الحياة، وأهم شيء أنه يفقد الأساس الأخلاقي كما نشاهد، فنحن نسمع عن الأخلاق، لكنها في الحقيقة مجرد كلمة تُردد ويعجب الناس بها، لكنها من ناحية التطبيق فهي في أزمة.
2- الأزمة السياسية
الأزمة الأخرى، وهي الأزمة السياسية، والعلاقات بين الدول تبنى على المصلحة الذاتية والمصلحة القومية وعلى القوة.
أي قاطع طريق، هل له مبدأ غير هذا؟
أي عصابة إجرام، هل لها مبدأ غير هذا؟
أي حيوانات في الصحراء أو في الغابة لها مبدأ غير هذا؟
هذا هو سر هذه الحروب والمظالم، وامتهان كرامة الإنسان وامتهان حريته، وسر هذه الحروب المجنونة الحمقى، وأسوأ ما فيها أيضًا أن حتى كلمة (المصلحة الذاتية) كثيرًا ما تكون عكس ذلك، فليست مصلحة ذاتية، ولا مصلحة وطنية، ولا مصلحة قومية، وإنما هي مصلحة طائفة معينة.
ولنضرب مثالًا: حرب العراق، هذه الدولة التي تعتبر رمزًا للحياة الثقافية المعاصرة وهي أمريكا، خسرت نفوساً حوالي أربعة آلاف من زهرة أبنائها حسب الإحصاءات الرسمية، وخسرت المليارات، وخسرت سمعتها ولطختها، وانتهكت ما تسميه قيمها الأمريكية أو الكونية، والذي استفاد هنا هو دولة واحدة صغيرة، واستفادت مائة بالمائة ولم تخسر حتى واحد بالمائة.
فأين العقل؟!
فبناء العلاقات الدولية على المصلحة القومية أو المصلحة الوطنية والقوة، و التي نرددها نحن الآن كترديد الببغاء، هذه هي التي خلقت الأزمة السياسية التي أوجبت هذه المعاناة للبشر.
3- الأزمة الاقتصادية
قد تكون هذه الأزمة أساس لهذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت.
من عهد آدم سميث، وطوال مائتين سنة الماضية عجزت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل، والتوفيق بين الاتجاه الجماعي والاتجاه الفردي في الاقتصاد. جاءت الشيوعية فطبقت الاتجاه الفردي بكل قوة خلال مدة طويلة تقريبًا سبعين سنة، ثم فوجئ العالم بانهيارها، ولم يكن انهيارها بسبب التوازن في التسلح، أو أن القوة العسكرية اختل توازنها، بل لأنه انكشف أنه اتجاه هش لا يستقيم مع الحياة.
ونفس الشيء بالنسبة للاتجاه الرأسمالي؛ لأنه عبارة عن أزمة دولية، وأحيانًا تكون أزمة مثل أزمة عام 1929م التي أتت بالحرب العالمية الثانية، والآن انظروا إلى صور الأغنياء الكبار بها يصطفون في طوابير لأجل الحصول على خبز الصدقة.
فالأزمة الاقتصادية أزمة عالمية، والناس الآن في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الحالية، ولا أحد يعلم كيف تتطور الأمور؟
الإسلام أثبت التاريخ، وستثبت المحاكمة المنطقية كلما اقتربنا منه اقتربنا من حل لهذه الأزمات.
وقد حدث بالفعل أنه وُجد مبدأ للعلاقات الدولية طُبق من جانب واحد، وهو جانب المسلمين الأوائل، ومع أنه يُطبق من جانب واحد لكنه نجح. وآية نجاحه مثلما ذكرت في أول المقدمة، هذه الظاهرة التي يقف أمامها العالم حائراً ولا يستطيع تفسيرها.
الأزمة الاقتصادية مع الأسف تحتاج إلى ليس مجرد إشارات فقط وأنا لا أحبذ اختصار الحديث حول موضوع مهم في مجرد كلمات لأن ذلك لا يعطي نتيجة بل يشوه، لكنها فعلاً انتهت إلى التوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي بأخذ كل إيجابيات هذا، وتفادي سلبيات ذاك، أخذت الملكية الجماعية بدون أن تؤثر على حافز الربح، وأخذت بالاتجاه الحر من غير أن تؤثر على العدالة الاجتماعية، ولا تحتاج المسألة إلا إلى تفكير قليل منا و استعادة شريط التاريخ.