اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﻌﺎم ﻟﺸﺆون اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺤﺮام واﻟﻤﺴﺠﺪ النبوي، ﻋﻀﻮ ﻫﻴﺌﺔ ﻛﺒﺎر اﻟﻌﻠﻤﺎء ، وﻋﻀﻮ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺮﺋﺎﺳﻲ ﻟﻤﺮﻛﺰ اﻟﻤﻠﻚ ﻋﺒﺪاﻟﻌﺰﻳﺰ ﻟﻠﺤﻮار اﻟﻮﻃﻨﻲ ﺑﺎﻟﻤﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدية.

الوضع الليلي الوضع المضيء
كامل الشاشة شاشة مقسمة

كلمة للشباب

الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وخليلك سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه، اللهم اهدنا إلى الطيب من القول، واهدنا إلى صراط الحميد.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى` وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا` هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ` وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ [الكهف:13-16].

قصة عجيبة تحكي عن فتية، أناس في الغالب في مرحلتكم العمرية في مرحلة الشباب العمرية، وُجدوا لسوء حظهم في مجتمع غريب من ناحية سلوكه وتفكيره، ولكنه ليس غريبًا في الحياة، فنحن نجد أمثلة له في الحياة العامة في كل عصر.

هذا المجتمع اسفنجي التفكير، فهو لا يفكر لنفسه، وإنما يتلقى، فعمله سلبي من ناحية التفكير، ولهذا فهو لا يميز بين الحقيقة والخيال، بين الحق والخرافة، بين التصور الصحيح والتصور المنحرف.

هذا المجتمع مجتمع منغلق تحكمه غريزة القطيع، ولهذا فهو حتى لا يسمح بظهور الطاقات الطبيعية الموجودة والتي خلقها ربنا في الإنسان، فهذا المجتمع مثل ما ذكرت مجتمع متلقي وليس مجتمع فاعل، يسمع في هذا الصباح معلومة فيصدقها، ثم يسمع في المساء معلومة تناقضها فيصدق بها، وبالتالي فهو لا يميز، وهذه صورة عجيبة، ولكن عند التأمل تجد لها تطبيقات كثيرة في الحياة.

من شأن مثل هذا المجتمع أن يكون متعصبًا ومتشددًا لا يسمح بحرية التفكير وحرية التأمل، فهؤلاء الفئة الذين وُجدوا في هذا المجتمع وُجدوا فيه ولكن بحكم طبيعة البشر التي خلقها الله فيهم كان الأمر لديهم من الملَكات التي جعلها الله في الإنسان أن يستجيبوا لهذه الملَكات، ويستجيبوا لهذه الطاقات التي لديهم، فهم يتفكرون في سلوك هذا المجتمع وتفكيره فيُعجبون، يتأملون ربنا رب السماوات والأرض، فلم هؤلاء يعبدون بشر مثلهم، يعطونهم خالص الحب وخالص الخضوع وخالص القصد والتصديق والولاء؟!

قال تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف:14]. هؤلاء قومنا يعبدون غير الله، ما هي الحجة؟! ليس لهم حجة، ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف:15]، فليس لديهم حجة ولا برهان؛ لأنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالسلوك الطبيعي وأن تحكمهم العقلانية، ويحكمهم التفكير المنطقي، وتحكمهم المحاكمة إلى مقتضيات العقل السليم.

حاول هؤلاء الشباب تغيير هذا الوضع، وحاولوا هداية هذا المجتمع بعد أن هُدوا هم أنفسهم لذلك، ولكن هذا المجتمع المنغلق الذي لا يسمح بالحوار ولا يسمح بالتفكير ولا يسمح بالتأمل لا يملكه بنفسه، ولا يسمح لغيره أن يملكه، فكان رد فعلهم رد سيء، فوضعوا هؤلاء الفتية بين خيارين: إما أن يرجموهم حتى الموت، أو يُكرهوهم على أن يعودوا ويُسكتوا داعي العقل ويكونوا مثلهم.

كان التهديد خطيرًا، فلم يملك هؤلاء الفتية إلا أن يفروا بأنفسهم إلى كهف، ولكنهم كانوا على درجة من الإيمان والأمل. في هذه اللحظات لم يفقدوا إيمانهم، ولم يفقدوا أملهم، ولم يفقدوا اعتقادهم بأن المستقبل سوف يتغير، وأنهم سوف يغيرونه.

جاءت الروايات دائمًا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا شبابًا، والحقيقة أنك لما تتبع سير الصحابة الأولين الذين اعتنقوا الإسلام في أول مرة تجدهم كلهم في مرحلة الشباب، لم يجاوزوها إلى مرحلة الكهولة، ربما كان أكبرهم أبو بكر رضي الله عنه ولكنه كان وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة كان عمره ثمانية وثلاثين، فالصحابة -رضي الله عنهم- الأولون الذين انتبهوا وعرفوا حقيقة ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم والتغيير الذي يريد أن يجري في المجتمع الصغير (مجتمع قريش)، ثم في المجتمع العالمي، فهموه بسرعة؛ لأنهم على عادة الشباب في حدة الذهن والقدرة على التفكير الشامل العميق الناقد النافذ.

وجاء في الأثر: كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب يريد حدة أذهانهم. وقد واجه الصحابة –رضي الله عنهم- في وقت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديات التغيير من جهتين، فهم يريدون أن يغيروا العالم، وأيضاً الوضع العالمي كان بالنسبة لهم وضعاً متحدياً؛ لأن صلته بحياتهم في جزيرة العرب صلة بينها بون شاسع، فكان هناك تحديات التغيير السلبية والتي يريدون أن يواجهوها أو يقوموها، وهناك تحديات إيجابية وهي إرادة التغيير، فلهذا كان عمر رضي الله عنه يستشير الشباب.

والذي جرى في الواقع أن نتيجة إطلاق ملكات الشباب وطاقاتهم أن جرى أعظم تغيير ربما في الدنيا، فامتد سلطان الصحابة -رضي الله عنهم- في خلال ثلاثين عامًا، فكانوا يحاربون في جبهتين، وكانت هذه  الحرب ليست اختيارًا لهم، وإنما هي حرب أُجبروا عليها؛ لأنهم في حكمتهم وحنكتهم السياسية ما كان يمكن أن يشعلوا حرب في جبهتين لعدوَّين هما أكبر دولتين في العالم وكان بينهما العداء و الحرب الضروس، وكل الأسباب التي يذكرها المؤرخون سواء كان المؤرخون مسلمون أو المستشرقون أنهم يشتركون في أسباب ودوافع هذه الحرب، وكلها كانت تتحقق بأن يحاربوا في جبهة واحدة، فإذا انتهوا منها حاربوا في الجبهة الثانية، و سير الحروب عند تأمله بعمق نرى أنه يهدي إلى هذا. كانت بداية الحرب التهديد من الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، و كان التهديد في وقت النبي صبى الله عليه وسلم وغزوة تبوك وغزوة مؤتة، وكل هذه كانت استجابة لهذا التهديد، فأبو بكر رضي الله عنه لأجل الدفاع ضد هذا التهديد أرسل المثنى بن حارث في سرية وأرسل عكرمة بن أبي جهل في سرية، لكن كلا القائدين رأى أن قوة الجبهة المقابلة أكبر من القوة التي معه فاستنجد به، ولهذا فُرضت هذه الحرب على الصحابة، وكانت من تقدير الله وتدبيره، فكانت خيرًا للبشرية، لم تشهد البشرية مثلها من الخير والنعمة فيما يُعلم من التاريخ المكتوب. فأقول إنهم في خلال خمس وعشرين سنة امتد سلطانهم، وهزموا الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وامتد سلطانهم من القوقاز من أرمينيا إلى أقصى المغرب وإلى حدود الصين.

حدث لا يزال يحير المؤرخين في سره، كيف حدث هذا؟!

فهو شيء يشبه أن يكون مما وراء الطبيعة ومما فوق تفكير البشر، في هذه المدة القصيرة كيف يمكن أن يحدث هذا الإنجاز الهائل، لكن هناك إنجاز أعجب منه، وهو أن هذه الشعوب الممتدة على هذه الرقعة والمختلفة الأديان فسيفساء من الأديان وفسيفساء من المذاهب، كل هذه جاءت الإمبراطورية الهيلينية وبعدها الرومانية، ولم تستطع أن تغير أي شيء في هذا، أما في خلال هذه المدة القصيرة انطبعت هذه الشعوب كلها بطابع الثقافة الجديدة، واعتنقت الإسلام، وتغيرت وغيرت طريقة حياتها في الأكل والشرب واللباس وفي العادات واللغة.

هناك أشياء مذهلة نتأملها الآن كأنما هي ألغاز، ولولا أن التاريخ في هذا لا يمكن أن يكذبها؛ لأننا لو كذبناها ما استطعنا أن نأخذ أي تاريخ.

ومن هذه الصور الثلاث التي ذكرت نأخذ الخصائص الطبيعية للشباب:

  1. الشباب حاد الذهن، تعود على التفكير النافذ الناقد، تعود على ألا تحكمه تصورات مسبقة بحيث توجه تفكيره، وتجعله جامد في قالب لا يتغير، عنده قدرة على التفكير المرن.
  2. الاستعداد لمواجهة تحديات التغيير، فهناك تحديات إيجابية تقتضي من الإنسان أن يدعم ويؤيد التغييرات الصالحة، وهناك تحديات سلبية تقتضي من الإنسان أن يواجهها وأن يقاومها، ولا يسمح بوجودها، فإذا وجدت يحاول رفعها.
  3. العزم والإرادة للتغيير، هذا العزم يتجلى في البذل التطوعي الذي لا عائد مادي أو معيشي له، وإنما يتعلق بالمثل، ويكون لديهم استعدادًا للبذل لها من الوقت والجهد وكذلك بذل النفس عند الحاجة.

فهذه هي خصائص الشباب الطبيعية التي إذا وُجدت وهيأ لها المجتمع البيئة الصالحة تعمل عملها الصحيح.

ويهمني منها الآن مسألة الاستعداد للبذل، والاستعداد للتطوع، نجد دائمًا في الحياة أمثلة عجيبة لهذا الاستعداد، استعداد الإنسان للبذل التطوعي الذي هو بذل بدون انتظار جزاء وبدون انتظار عائد، وإنما تحقيق معنى الحياة.

في عام 1936- 1937م كان الشباب في أوروبا يتركون وظائفهم وعوائلهم من كل مدينة ومن كل قرية، ويذهبون للالتحاق بالانترناشيونال بريقيد، وهي تسمية لهذه البيئة التي وُجد فيها هؤلاء المتطوعون الذين بذلوا أنفسهم، وجاءوا مستعدين للموت في سبيل إيمانهم بمبدأ مقاومة الفاشية، فهم جاءوا للحرب مع الجمهوريين ضد الفاشية والدكتاتورية، والشيء الطبيعي أن تكون هذه الصورة العظيمة من البذل والتطوع موضع فخر لأوروبا ونقط مضيئة في تاريخها.

ظهرت أيضًا في الآداب العالمية، حيث أن الكاتب المشهور (جورج أورويل) صاحب الكتاب المشهور، وهناك جيل قبلكم أكثرهم قرأ هذه الرواية العالمية، وترجمت في وقتها إلى عدة لغات كانت ضد الشيوعية في ذروة طغيانها وقوتها، وظهر في العربية بعنوان (مزرعة الحيوانات)، وكان جورج أورويل من هؤلاء الشباب في ذلك الوقت الذين ذهبوا إلى الالتحاق إلى (الانترناشيونال بريقيد)، وكان نتيجة هذا أن ألف روايته العالمية الجميلة Homage to Catalonia.

تكرر هذا في عقد الثمانينات من القرن المنصرم الميلادي، لكن في صورة أخرى، فكان الروس دخلوا بدبابتهم إلى كابول في أول يوم من عام 1979م تحت شعار نشر الديموقراطية الاجتماعية، وتحرير المرأة، ومقاومة التخلف والرجعية، تمامًا مثل ما حصل بعد عشرين سنة عندما غزت أمريكا أفغانستان وكانت تقود تحالف من أربعين دولة، تحت شعار نشر الديموقراطية السياسية، وتحرير المرأة، ومقاومة التخلف والقضاء عليه.

إن من أهم خصائص الشباب في هذا العصر القدرة الذهنية، والفكر الناقد النافذ، والاستعداد للتغيير والقدرة عليه، والعزم، وبذل الجهد، والبذل التطوعي الذي لا يرجى منه الجزاء الدنيوي، أي التعلق بالقيم وبالمثل.

أبرز صفة في هذا العصر هي التغير المتسارع، فأنا من جيل أدركت الإيقاع الزمني البطيء، فكانت الحياة تمضي مائة سنة، مائتين سنة، ألف سنة، بل قرون، ولا تغيير، فالعصر الذي عشت فيه كان تمامًا مثل العصر الذي فيه الإنسان قبل ألفين سنة، كان الناس يزرعون مثل ما يزرعون، ويتنقلون مثل ما يتنقلون ، فهم يتشابهون أيضًا في طريقة التصنيع، ويتشابهون في أسفارهم ورحلاتهم ووسائلهم وطريقة حياتهم، ثم جاء هذا التغيير الذي لا يكاد الإنسان يلاحقه. وبالنسبة لمثلي أنا أعتبرها ميزة؛ فنحن الآن نتصور التاريخ على حقيقته لأننا عشناه، أنتم شباب تتصورونه شيئًا مقروءًا أو مكتوبًا أو مسموعًا، وصحيح هذه الألفاظ تؤدي معنى، لكن لا توصل إليكم الإحساس ولا تستطيعون تصور الزمن كمن عاشه، وقد تابعت التغير وانتبهت له لأنني أعيشه وأشاهده، والآن لو فكرت في بيتك، في غرفة من غرف بيتك وقمت بحصر الأشياء التي فيها، فلن تجد شيئًا كان موجودًا من ستين سنة، فكلها أشياء جديدة استوردناها من مصادر أخرى، فهي ليست لنا وإنما هي أشياء جديدة. فهذا هو التغيير المادي، ويسهل علينا إدراكه، أما الذي قد يصعب علينا إدراكه هو اللغة، فاللغة تغيرت، وقد كتب أحد الإخوة عن اللهجة العامية في الوشم، فأخذت هذا الكتاب وقرأت منه صفحتين على ابن أخي الذي يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، فلم يفهم منه كلمة واحدة، وهذا يدل على أن اللغة قد اختلفت كثيرًا، فلو أن أحدهم خرج من قبره وجاء إلينا فلن يستطيع فهمنا؛ لأن قطعاً نصف المفردات والألفاظ والتعبيرات التي يستعملها لا تستعمل الآن، وكذلك قد فاته التعبيرات والألفاظ التي نستعملها نحن ليس بهل معنى عنده، فقد تغيرت اللغة ربما أكثر من التغير المادي.

اللغة تفكير ناطق، والتفكير لغة صامتة، والإنسان لا يفكر إلا باللغة، وبتغير اللغة تغيرت التصورات لدينا كثيرًا، وهذا أخطر شيئ. ومن في سني يلاحظ هذا التغيير كما يلاحظ تغير اللغة والتغير المادي، ومع الأسف فإن هذه التصورات قد تكون صحيحة أو لغير صحيحة، وقد تكون صالحة أو غير صالحة.

الحضارة الغربية وما نسميه الآن الثقافة أو الحضارة العالمية المعاصرة من العدل أن نسميها الحضارة الغربية، ولأن الحضارة الغربية الحقيقة لما طلعت شمسها على الكرة الأرضية امتدت عليها جميعًا، لكنها كانت مثل عصا موسى، تلقف الثقافات الأخرى وتبتلعها أحياناً، فتموت في جسمها بدون أن تستفيد منها، أو أحيانًا تلفظها بإفرازاتها وتغيير وضعها.

الحضارة الغربية بإشعاعها وبكل أطياف هذا الإشعاع أثرت على الحياة البشرية، والاستجابة من الثقافات الأخرى كانت مختلفة، منها ثقافات أشخاصها أو الحاملين لها كانوا أقوياء، وكان لديهم اعتزاز بألوان من ثقافاتهم، فكانوا يرونها نافعة، وهي في الحقيقة ثبت أنها نافعة، وكان عندهم الشجاعة والجرأة والقدرة على مقاومة التغيير فحافظوا عليها. يمكن نذكر مثالا اليابان، هناك شعوبًا أصل الأفكار وهذه الثقافات ليست قوية ولا موضع لها في هذا العصر، وأهلها أيضاً لم يكن عندهم الجرأة، فماتت وكان من السهل أن تموت.

بالنسبة للعالم الإسلامي فقد حدث أمر غريب، فلديه الأفكار القوية، لكنه ضعيف وانهزامي، فلم يميز، ففي كثير من مجتمعاته مع الأسف الشديد انطبقت عليه صفة مجتمع وفتنة أهل الكهف، فصارت هذه المجتمعات مجتمعات إسفنجية، تتشبع وتتشرب ولا تعطي، ولا تفرق في التصورات بين ما هو صالح وما هو غير ذلك، وهذا هو سر مشاكلنا، وهذا ما يحتاجه وما يتطلبه العالم الإسلامي من الشباب بقدرتهم وقدرتهم على التغيير، وأن يحاولوا تغيير هذا الوضع، وهو وضع غريب، والإمكانيات الهائلة في ثقافتنا الحقيقية، فالفرق بين ثقافتنا التقليدية السائدة الآن وثقافتنا الحقيقية التي كان يجب أن تكون هي ثقافتنا وهي الإسلام، والإسلام لديه من الإمكانيات ما يمكن أن يغير حياتنا ويصنع لنا التقدم، والمشكلة أننا غير واعين بهذه الإمكانيات، فهذه الإمكانيات ليست فقط لصنع ووجود تقدمنا، بل هو تقدم البشرية.

الحضارة المعاصرة مع الأسف الشديد بهذه الخيرات والنعم والمنجزات التي أعطتها للإنسان في هذا العصر، سواء الثروة المعرفية أو التكنولوجيا في التنظيم و تكنولوجيا إنتاج النضج الفكري، بل أيضًا حتى في المجال الخلقي، مثل ما نسمع الآن عن حقوق الإنسان وعن القيم الكونية من العدل والحرية والمساواة أمام القانون، فكل هذه أشياء أهدتها الحضارة الغربية للعالم المعاصر، وهي لا شك أنها هدايا قيمة، والمفروض أن نحاول أن نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن، لكنها مع الأسف من جانب آخر أوجدت لدى العالم ثلاث أزمات لا تزال تتعقد ولا تُحل، فطوال هذه القرون صارت هذه الأزمات تتراكم، ثلاث أزمات هي سر شقاء الإنسان الآن، وسر العَنَت الذي يعانيه، وسر الحياة الضنك التي يعانيها بالرغم من كل وسائل السعادة.

  1. الأزمة الروحية

أول هذه الأزمات، الأزمة الروحية: وهي فقد الإيمان المؤسس على السببية العقلية، إما أن يكون إيمانًا مبنيًا على خرافة، والمفروض أن هذا العصر ضد الخرافة، أو لا إيمان، ينتج عن الإيمان المبني على غير السببية العقلية أنه عرضة لأن يتزلزل وأن يزول، أما عدم الإيمان، فالحقيقة أنه يفقد الحياة، فيفقد الإنسان معنى الحياة، وأهم شيء أنه يفقد الأساس الأخلاقي كما نشاهد، فنحن نسمع عن الأخلاق، لكنها في الحقيقة مجرد كلمة تُردد ويعجب الناس بها، لكنها من ناحية التطبيق فهي في أزمة.

  1. الأزمة السياسية

الأزمة الأخرى، وهي الأزمة السياسية، والعلاقات بين الدول تبنى على المصلحة الذاتية والمصلحة القومية وعلى القوة.

أي قاطع طريق، هل له مبدأ غير هذا؟

أي عصابة إجرام، هل لها مبدأ غير هذا؟

أي حيوانات في الصحراء أو في الغابة لها مبدأ غير هذا؟

هذا هو سر هذه الحروب والمظالم، وامتهان كرامة الإنسان وامتهان حريته، وسر هذه الحروب المجنونة الحمقى، وأسوأ ما فيها أيضًا أن حتى كلمة (المصلحة الذاتية) كثيرًا ما تكون عكس ذلك، فليست مصلحة ذاتية، ولا مصلحة وطنية، ولا مصلحة قومية، وإنما هي مصلحة طائفة معينة.

ولنضرب مثالًا: حرب العراق، هذه الدولة التي تعتبر رمزًا للحياة الثقافية المعاصرة وهي أمريكا، خسرت نفوساً حوالي أربعة آلاف من زهرة أبنائها حسب الإحصاءات الرسمية، وخسرت المليارات، وخسرت سمعتها ولطختها، وانتهكت ما تسميه قيمها الأمريكية أو الكونية، والذي استفاد هنا هو دولة واحدة صغيرة، واستفادت مائة بالمائة ولم تخسر حتى واحد بالمائة.

فأين العقل؟!

فبناء العلاقات الدولية على المصلحة القومية أو المصلحة الوطنية والقوة، و التي نرددها نحن الآن كترديد الببغاء، هذه هي التي خلقت الأزمة السياسية التي أوجبت هذه المعاناة للبشر.

  1. الأزمة الاقتصادية

قد تكون هذه الأزمة أساس لهذه الأزمات، والحقيقة أننا لا ندري أين السبب وأين النتيجة، فكل أزمة منها سبب لآخر ونتيجة له في نفس الوقت.

من عهد آدم سميث، وطوال مائتين سنة الماضية عجزت الحضارة الغربية، وبالتالي ما نسميه الآن بالحضارة أو الثقافة العالمية المعاصرة عن حل، والتوفيق بين الاتجاه الجماعي والاتجاه الفردي في الاقتصاد. جاءت الشيوعية فطبقت الاتجاه الفردي بكل قوة خلال مدة طويلة تقريبًا سبعين سنة، ثم فوجئ العالم بانهيارها، ولم يكن انهيارها بسبب التوازن في التسلح، أو أن القوة العسكرية اختل توازنها، بل لأنه انكشف أنه اتجاه هش لا يستقيم مع الحياة.

ونفس الشيء بالنسبة للاتجاه الرأسمالي؛ لأنه عبارة عن أزمة دولية، وأحيانًا تكون أزمة مثل أزمة عام 1929م التي أتت بالحرب العالمية الثانية، والآن انظروا إلى صور الأغنياء الكبار بها يصطفون في طوابير لأجل الحصول على خبز الصدقة.

فالأزمة الاقتصادية أزمة عالمية، والناس الآن في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الحالية، ولا أحد يعلم كيف تتطور الأمور؟

الإسلام أثبت التاريخ، وستثبت المحاكمة المنطقية كلما اقتربنا منه اقتربنا من حل لهذه الأزمات.

وقد حدث بالفعل أنه وُجد مبدأ للعلاقات الدولية طُبق من جانب واحد، وهو جانب المسلمين الأوائل، ومع أنه يُطبق من جانب واحد لكنه نجح. وآية نجاحه مثلما ذكرت في أول المقدمة، هذه الظاهرة التي يقف أمامها العالم حائراً ولا يستطيع تفسيرها.

الأزمة الاقتصادية مع الأسف تحتاج إلى ليس مجرد إشارات فقط وأنا لا أحبذ اختصار الحديث حول موضوع مهم في مجرد كلمات لأن ذلك لا يعطي نتيجة بل يشوه، لكنها فعلاً انتهت إلى التوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي بأخذ كل إيجابيات هذا، وتفادي سلبيات ذاك، أخذت الملكية الجماعية بدون أن تؤثر على حافز الربح، وأخذت بالاتجاه الحر من غير أن تؤثر على العدالة الاجتماعية، ولا تحتاج المسألة إلا إلى تفكير قليل واستعادة شريط التاريخ. أما بالنسبة لمسألة الأزمة الروحية فهذا أمر واضح، فهو أمر فوق الكلام.

من حسنات الثقافة العالمية المعاصرة والحضارة الغربية اهتمامها بالعامل الإنساني وبالتطوع، وفي آخر عام 1428 عقد مركز الرحمانية في الغاط ندوة، كان يشارك فيها وزير الشئون الاجتماعية في المملكة، ومندوب عن وزارة الداخلية، وشخص ثالث، فكان وزير الشئون الاجتماعية يقارن بين التطوع والمؤسسات الخيرية بين دول العالم، وقد ذكر الإجابة ووضح أن في أمريكا لكل 163 شخصًا لهم مؤسسة خيرية، وأما في فرنسا فلكل 106، وفي ألمانيا لكل 102، وفي مصر لكل 500 مواطن مؤسسة خيرية، وكما ذكر الوزير أن في المملكة هناك جمعية لكل 7,500 شخصًا، وأعتقد أن هذا لابد أن يكون خطأ، فأعتقد أن الصحيح أنها لكل 57,000 شخص، فمثل ما ذكرت في فترة سابقة أو في الخطاب أمام الملك عندما تعرضت لهذه المقارنة أنه لو كان لدينا جمعية لكل 1,000 شخص لكان يجب أن يكون عندنا 30,000 جمعية، ولكن الموجود عندنا 600، وهذا فارق هائل بيننا وبين العالم المتقدم. فترون هذا الفارق الهائل بيننا وبين العالم المتقدم. في أمريكا تجد من كل اثنين من السكان تجد شخصًا يتطوع بخمس ساعات عمل أسبوعياً، أي أن 750 مليون ساعة يبذلها المواطنون في العمل تطوعاً بخلاف البذل بالمال، فهم يبذلون بذلك 150 مليون ساعة في اليوم، فهو عمل أكثر من كل موظفي الحكومة الأمريكية.

مصيبتنا أننا لا نؤمن بالعمل التطوعي، فهل نحن أقل إحساس إنساني من الشعوب الأخرى والبلدان الأخرى؟

هل ماضينا يثبت بالفعل أن هذه خصيصة لنا؟

خصائص الحضارة الإسلامية:

أولًا: أنها حضارة أوقاف أو حضارة شعبية:

لا يوجد ثقافة أو حضارة في العالم بنيت على البذل التطوعي مثل ما بُنيت الحضارة الإسلامية، فهي بنيت على الأوقاف، فكانت الحكومات قبل الدول الحديثة تهتم بالأمن الخارجي والداخلي والقضاء، أما ما يحتاجه المجتمع لا تهتم به الحكومات. في الحضارة الإسلامية كل الخدمات التي يحتاجها المجتمع كانت مؤسسة ومبنية على الأوقاف من الطرق والكباري وكري الأنهار والمستشفيات والمكتبات والمدارس والمعابد يعني كل ما يتصوره الانسان يعني أشياء عجيبة، وليت هناك وقت لكنت ذكرت لكم من طرائفه. فالحضارة الإسلامية بُنيت على الأوقاف والبذل التطوعي، وحيث هذا هو شأننا، فليست خصيصة لنا، وليست طبيعة لنا، ولا ننفرد عن الشعوب بعدم الإحساس الإنساني واستجابة الإنسان لفطرته الطبيعية واستجابة الشباب لما أعطاه الله من هذه الملكات، ومنها الاستعداد للبذل.

كون الحضارة الإسلامية بُنيت عن الأوقاف، فهذا ميزها عن كل الحضارات الأخرى، فالحضارات الأخرى أنشأها الفراعنة أو الأباطرة أو القوى السياسية والعسكرية، أما الحضارة الإسلامية فما دام أنها بُنيت على الأوقاف، وهذه الأوقاف من أفراد الشعب، فبالتالي هي حضارة شعبية، وليست حضارة قوى مادية أو عسكرية أو أباطرة أو طغاة.

ثانيًا أنها حضارة إنسانية:

فالحضارات الأخرى فيها الجانب الإنساني قليل، ففيها الجانب الذي يمتهن الإنسان ويمتهن كرامته ويذيبه، أما كون الحضارة تُبنى على الأوقاف فالأوقاف شرطها الأول أن يكون القصد فيها إنساني خيري وقصد بر.

ثالثًا: الحضارة الإسلامية متجددة باقية:

نرى الحضارات الأخرى تبيد بأسباب الفناء، وأهمها: الحروب والتقلبات السياسية والأوبئة، أما الحضارة الإسلامية فكانت ممتدة، فتغلبت على الحروب والصليبيين والتتار، وتغلبت على التقلبات السياسية والأوبئة والكوارث، وما زالت الحضارة متجددة باقية.

فهذه الخصائص الثلاث من حق الشباب أن ينتبه إليها، وأن يعرف قيمته وقيمة حضارته وقيمة الإمكانيات التي تختزنها هذه الحضارة والتي يختزنها الإسلام.

الإشكال أن بانبهارنا بالحضارة العالمية وبأخذ تصورات غريبة منها، وهي تصورات أدنى من تصورات المُصدِّر نتيجتها ضعف ثقتنا بالإسلام، وهذا الضعف جعلنا لا نعي بالإمكانيات الكامنة في الإسلام، وعدم وعينا بتلك الإمكانيات جعلنا من المستحيل أن نستفيد منها.

أعلم أني أطلت عليكم، لكن هذه القضية من أكبر القضايا، فالعالم الإسلامي بخاصة مثل ما كان يُحكى عن بعض الشعوب الإفريقية التي كانت تشتري من المستعمر الخرز بالذهب، فهم لديهم الثروة لكنهم لا يقدرونها، ولا يعرفون قيمتها، ويُبهرون بتصورات.  ليت في الوقت متسع لأورد أمثلة أخرى.

وأكثر ما يؤرقني هو عدم الانتباه لوسيلة التقدم الحقيقي، نحن نتحدث عن التقدم في الحياة، لكننا لا نتحدث عن الحياة التي يسميها القرآن بالحياة الطيبة ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97]. وهذه الحياة الطيبة ضد الحياة الضنك لمن أعرض عن ذكر الله فسوف يكون في معيشة ضنكًا.

وأختم بحمد الله، والصلاة على نبي الله عليه الصلاة والسلام ، والدعاء بأن نعي وأن نعمل.

2016

صالح بن عبدالرحمن الحصين

شارك المقال